GeeGee بنات أحلى صحبة
عدد المساهمات : 293 عدد المواضيع : 61 الجنس : العمر : 33
خدمات المنتدى الساعة الآن فى مصر: من فضلك: لاتنسى متابعتنا على:
| موضوع: المجنونة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ الأربعاء 18 أبريل 2012 - 19:54 | |
| [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة](( المـجـنـونـة ))
يقول ماتيو داندولين , إن دجاجات الأرض تذكرني بحادثة مأساوية من أيام الحرب .
مزرعتي واقعة في ضاحية ( كورمي ) . كنت أسكن فيها , حين وصل البروسيون .
كان لي في ذلك الوقت جارة مجنونة فقدت عقلها تحت وطأة المصائب التي وقعت عليها .
فيما مضى وهي في الخامسة والعشرين , وخلال شهر واحد , مات أباها وزوجها وطفلها الرضيع .
هذه المرأة الشابة المسكينة التي صعقها الحزن , لازمت الفراش وأخذت تهذي لمدة ستة أسابيع .
ثم تبع هذه النوبة الحادة حالة من الإعياء الهادئ الذي أبقاها دون حراك , لا تأكل ولا تحرك سوى عينيها .
في كل مرة كانوا يريدون رفعها عن السرير , كان صراخها يرتفع , كما لو أنهم يقتلونها .
لذلك , كانوا يتركونها دائماً مستلقية ولا يسحبونها من أغطيتها إلا عند العناية بنظافتها وبقلب فراشها .
كانت خادمة عجوز تبقى بجانبها , تسقيها الماء من وقت لآخر أو تطعمها قليلاً من اللحم البارد .
ما الذي يدور في خلد هذه النفس البائسة ؟ لم يعرف أحد ذلك قط , فهي لم تعد تتكلم .
هل كانت تفكر بالأموات ؟ هل كانت تسرح بأفكارها دون أن يكون لها ذكريات محددة ؟ أم أن تفكيرها المنهك بقي دون حراك كالماء الراكد دون مجرى ؟
لقد بقيت على هذه الحال خمس عشرة سنة ,منغلقة على نفسها وبلا حراك.
اندلعت الحرب , ودخل البروسيّون كورمي في الأيام الأولى من شهر ديسمبر / كانون الأول .
لا يزال ذلك الأمر ماثلاً أمام عينيّ كما لو حدث البارحة .
كان الجليد قاسياً يذيب الحجر , وكنت وقتها ممدداً على كنبة دون حراك بسبب مرض النِقرس ,
عندما سمعت وقع خطواتهم القوية والمنتظمة , رأيتهم من خلال نافذتي وهم يمرون .
كانوا يسيرون في أرتال لا تنتهي , وكلهم متشابهون بهذه الحركات الآلية التي يتميزون بها , وكأنهم دمى متحركة .
ثم وزع القادة هؤلاء الرجال على السكان . فكان نصيبي منهم سبعة عشر رجلاً .
وكان لجارتي المجنونة اثنا عشر رجلاً من بينهم قائد سرية . كان رجلاً فظاً , قاسي القلب , ولا يرحم ...
في الأيام الأولى , مر كل شيء بشكل طبيعي . كان قائد السرية قد أُخبر بأمر المرأة المريضة التي تسكن بالجوار , ولم يعبأ بالأمر ...
ولكن , بعد مضي فترة من الوقت أسخطه ألا يرى هذه المرأة أبداً , فبدأ يستفسر عن مرضها .
قيل له : إنها طريحة الفراش منذ خمس عشرة سنة نتيجة فاجعة ألمّت بها .
لكنه بدون شك لم يقتنع بهذا الكلام , وتصور أن المرأة المسكينة لا تترك سريرها , لأنها متغطرسة ولا تريد أن ترى الروسيين ولا التكلم معهم ولا الاحتكاك بهم .
فأصر على أن تستقبله . فدخل غرفتها . طلب منها بصوت أجش : أرجو منك يا سيدتي أن تنهضي من سريرك لنراكِ ونتحدث إليك .
أدارت نحوه عينيها الزائغتين , عينيها الفارغتين , دون أن ترد عليه .
فأعاد الطلب قائلاً : " لا أسمح بهذه الوقاحة , إذا لم تنهضي بإرادتك , سأجد وسيلة تجعلك تتحركين وحدك . "
لكنها لم تحرك ساكناً , وبقيت بلا حراك وكأنها لم تره . فاستشاط غضباً , ظناً منه أن ذلك الصمت المطبق دليل احتقار إليه , وأضاف قائلاً : " إن لم تنهضي غداً ... " ثم خرج من الغرفة .
وفي الغد , أرادت الخادمة العجوز أن تلبسها ثيابها لتخرجها , ولكن المريضة أخذت بالعويل وهي تخبط بيديها ,
فصعد الضابط مسرعاً فارتمت الخادمة عند قدميه متضرعة : " إنها لا تريد يا سيدي , إنها لا تريد ... سامحها , إنها حقاً بائسة . "
وبقي الجندي , رغم غضبه , حائراً لا يجرؤ على إعطاء الأمر لرجاله بإخراجها من السرير .
وفجأة , انفجر بالضحك وأعطى أوامر بالألمانية لرجاله .
بعد قليل رأينا مفرزة تخرج وتحمل فراشاً كما يُحمل الجريح .
في هذا الفراش الذي بقي على حاله , كانت المجنونة تتمدد صامتة هادئة , وهي لا تبالي بما يجري حولها , طالما أنها تركت مستلقية .
وكان في الخلف رجل يحمل صر من الملابس النسائية .
أردف الضابط وهو يفرك راحتيه قائلاً : " سنرى جيداً إن كنت لا تستطيعين تغيير ثيابك لوحدك , سنقوم بنزهة قصيرة . "
ثم رأينا الحشد يبتعد باتجاه غابة ( دي موفيل ) .
عاد الجنود بعد ساعتين بمفردهم . ولم نعد نرى المرأة المجنونة . ماذا فعلوا بها ؟ إلى أين أخذوها ؟ لا أحد يعلم من الأمر شيئاً ...
وفي يوم عاصف تساقط الثلج ليل نهار , وغطى السهل والغابة بوشاح إسفنجي جليدي .
أما الذئاب فكانت تصل بعوائها حتى أبواب منازلنا .
ولازمتني فكرة اختفاء المرأة الضائعة وشغلت تفكيري .
فقمت ببعض المساعي لدى السلطات البروسية للحصول على بعض المعلومات عنها , كدت أُقتل رمياً بالرصاص بسبب ذلك .
عاد الربيع , وانحدر جيش الاحتلال . وبقي منزل جارتي المجنونة مقفلاً . وغطى العشب الممرات .
لقد ماتت الخادمة العجوز خلال فصل الشتاء . ولم يهتم أحد بهذه القضية .
وكنت أنا الوحيد الذي شغل باله بها بدون توقف . ماذا فعلوا بهذه المرأة ؟ هل هربت في الغابة ؟ هل وجدها أحد ووضعها في مستشفى دون أن يتمكن من الحصول على أي معلومات ؟ لا شيء خفف من شكوكي . لكن مرور الزمن شيئاً فشيئاً هدأ من هموم قلبي .
في الخريف التالي عادت دجاجات الأرض بأسرابها .
ووجدت الفرصة سانحة لأجر نفسي إلى الغابة بعد أن سمح لي داء النقرس بذلك ...
بعد أن أسقطت أربعة أو خمسة من الطيور ذات المنقار الطويل , أصبت واحداً منها وقع في حفرة مغطاة بالأغصان .
كان علي أن أنزل لأفتش عنه , فوجدته بالقرب من جمجمة . وفجأة تذكرت المرأة المجنونة وكأن ضربة أصابت القلب مني .
لا شك أن الكثيرين في تلك السنة المشؤومة انتهى بهم الأمر إلى الموت في هذه الغابة .
ولكن لا أدري لماذا , كنت على يقين تام , أقول لكم على يقين تام, من أنني أمام جمجمة تلك البائسة المخبولة .
وفجأة فهمت , وعرفت كل شيء . لقد تركوها على هذا الفراش , في الغابة الباردة المعزولة ,
ولما كانت وفية للهاجس الذي كان يمتلكها , فقد تركت نفسها تموت تحت وسادة الثلج الناعم والكثيف دون أن تحرك ذراعاً أو ساقاً .
ثم التهمتها الذئاب . أما العصافير , فقد جعلت من فراشها الممزق أعشاشاً لها .
لقد احتفظت بهذه العظام البائسة .
وأنا أتمنى الآن ألا يعرف أبناؤنا الحرب أبداً ...
( للكاتب غي دي موباسان ) | |
|