الذنوب وإن كانت
في مجموعها خروجا عن أمر الله عز وجل ومخالفة لشرعه ، إلا أن جرمها متفاوت
تفاوتا عظيما ، فأعظم الذنوب وأقبحها على الإطلاق هو الكفر بالله ، وهو
الذنب الذي إذا لقي العبد ربه به لم يغفره له ، وكان من الخالدين في نار
جهنم أبدا ، قال تعالى : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة
ومأواه النار وما للظالمين من أنصار }(المائدة:72) .
وتأتي البدع غير المكفرة في المرتبة الثانية من الذنوب بعد الشرك والكفر
بالله عز وجل ، ذلك أن المبتدع متقولٌّ على الله بغير علم ، والقول على
الله بغير علم قرين الشرك بالله عز وجل ، قال تعالى :{ قل إنما حرم ربي
الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله
ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }( الأعراف:33) .
وأما المرتبة الثالثة من الذنوب فهي المعاصي سواء أكانت معاص قلبية
كالبغضاء والحسد ، أم ظاهرية كالزنا والسرقة وعقوق الوالدين ، وهذه الذنوب
قسمها العلماء إلى قسمين :
القسم الأول : الكبائر ، والقسم الثاني : الصغائر ، ولكلٍ أحكام تختص به ،
فلنذكر أحكام الكبائر أولا، وأول تلك الأحكام القول في ضابط الكبيرة ، فقد
ذكر العلماء ضوابط للكبائر بغية تمييزها عن الصغائر ، فقالوا في تعريف
الكبيرة هي : كل ذنب ترتب عليه حد أو أتبع بلعنة أو غضب أو نار ، كقوله صلى
الله عليه وسلم : ( لعن الله الواصلة والمستوصلة ) متفق عليه .
ومن أحكام الكبيرة أنها لا تكفرها الأعمال الصالحة بل لا بد لتكفيرها من
التوبة النصوح ، وعلى هذا أكثر العلماء ، مستدلين على ذلك بقوله صلى الله
عليه وسلم : ( الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت
الكبائر ) رواه مسلم . فالكبائر لا بد لها من توبة ، وإذا لقي العبد ربه
بها ، كان تحت المشيئة ، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عذبه فترة ، ثم أدخله
الجنة ، قال تعالى : { إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء ومن يشرك باللّه فقد افترى إثما عظيما } (النساء:48) .
وأما القسم الثاني من المعاصي فهي الصغائر : وهي ما لم تبلغ حد الكبيرة ،
كالنظر إلى النساء ونحو ذلك ، وقد سمى الله هذا النوع من الذنوب باللمم ،
قال تعالى:{ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إنّ ربّك واسع
المغفرة }( النجم:32) ، ولما كان ابتلاء الناس بهذه الذنوب كبير ، فقد نوع
الله سبحانه سبل تكفيرها والطهارة منها ، فجعل من أسباب تكفيرها : اجتناب
الكبائر ، قال تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم
سيّئاتكم وندخلكم مدخلا كريما } (النساء:31) ، وجعل من مكفراتها فعل
الصالحات ، قال تعالى :{ وأقم الصّلاة طرفي النّهار وزلفا من اللّيل إنّ
الحسنات يذهبن السّيّئات ذلك ذكرى للذّاكرين } (هود:114) ، وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ( اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها
وخالق الناس بخلق حسن ) رواه الترمذي وصححه . وهذا من رحمة الله بعباده
ورأفته بهم .
لكن لا يعني ذلك أن يستهين العبد بهذه الذنوب ، فقد حذر النبي صلى الله
عليه وسلم من ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( إيّاكم ومحقّرات الذّنوب ،
فإنّما مثل محقّرات الذّنوب كمثل قومٍ نزلوا بطن وادٍ ، فجاء ذا بعودٍ
وجاء ذا بعودٍ حتّى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم , وإنّ محقّرات الذّنوب متى
يؤخذ بها صاحبها تهلكه ) أخرجه أحمد بسندٍ حسنٍ ، وثمة أمور إذا عرضت لهذه
الصغائر فربما أخذت حكم الكبائر ، فمن تلك الأمور:
1- الإصرار عليها ، فمن أصرَّ على صغيرة ، فيخشى أن تتحول في حقه إلى كبيرة
، ذلك أن الله وصف الله عباده المؤمنين ، بأنهم لا يصرون على ذنب ، قال
تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا
لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } (
آل عمران:135) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ( ويل للمصرين، الذين يصرون على
ما فعلوا وهم يعلمون ) رواه أحمد وصححه الألباني . وورد عن السلف قولهم : "
لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار " .
2- الجهر بها ، وذلك لما يدل عليه الجهر بهذه المعاصي من قلة تعظيم مرتكبها
لله جل جلاله ، وليس هذا حال المؤمنين الذين يملأ قلوبهم الخوف والوجل منه
سبحانه ، فلا يجاهرون أو يفاخرون بمعصيته ، وإذا وقع منهم خطأ أو زلل
بادروا بالتوبة ، لهذا جاء الوعيد الشديد في حق المجاهرين ، فقال عليه
الصلاة والسلام : ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجانة أن يعمل
الرجل بالليل عملا ، ثم يصبح وقد ستره الله ، فيقول : يا فلان عملت البارحة
كذا وكذا ، وقد بات يستره ربه ، ويصبح يكشف ستر الله عنه ) رواه البخاري
ومسلم.
3- الاستصغار ، فالذنب وإن تفاوت قدره ، إلا أن العبد ينبغي أن ينظر إلى
ذات المعصية من حيث أنها مخالفة للخالق جل جلاله ، لذلك قال من قال من
السلف : " لا تنظر إلى صغر المعصية ، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت " ، وجاء
في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( وإن العبد ليتكلم
بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم ) رواه البخاري ،
فالتهاون بالمعاصي واستصغارها ليس من شأن المؤمنين ، فعن عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه قال : " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع
عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار " .
4- أن يكون فاعل الصغيرة ممن يقتدى به ويتأسى ، وذلك أن الناس ربما اقتدت
به في معصيته ، لهذا ضاعف الله على نساء النبي الإثم ، لكونهن في موضع
الأسوة والقدوة ، فقال سبحانه : { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة
يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا }(الأحزاب:30) ، وكان عمر
بن الخطاب رضي الله عنه إذا أمر الناس بشيء أو نهاهم عن شيء رجع إلى أهله
وقال لهم : " إني قد أمرت الناس بكذا ، ونهيت الناس عن كذا ، وإن الناس
ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم ، والذي نفس عمر بيده لا أسمع أن أحداً
منكم ترك الذي أمرت به ، أو فعل الذي نهيت عنه إلا ضاعفت عليه العقوبة " .
تلك هي الذنوب والخطايا ، وهي مهما عظمت ، ومهما بلغت ، فإن سبيل التوبة
منها مفتوح للعبد ما لم يصل إلى مرحلة الغرغرة ، وما لم تطلع الشمس من
مغربها ، وهذا من رحمة الله عز وجل بالعباد ، حيث سهل لهم أمر التوبة ،
وخففها عليهم ، فهي لا تقتضي سوى الإنابة إلى الله ، والإقلاع عن المعصية ،
والندم عليها ، والاستغفار منها ، من غير أن يكون بين التائب وبين الله
واسطة ، فينبغي أن يحرص العبد على تحصيل هذه المنة العظيمة ، فقد كان صلى
الله عليه وسلم : ( يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة )
رواهالبخاري ، هذا وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم ، فكيف بحالنا نحن
الخطاءون المذنبون.