إن
التفرقة بين (النُّبوة) و (العبقرية) هي من أخطر ما تعرضت له كتابات العصريين
للسيرة النبوية فليس من المعقول أن تطلق تسمية (العبقرية) على الرَّسُول -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- المؤيد بالوحي وعلى صحابته أمثال أبي بكر الصديق,
وعمر بن الخطاب, وقد وصف الرَّسُول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- بالعبقرية
في كتابات العقاد, والبطولة في كتابات عبد الرحمن عزام، وبطل الحرية في كتابات
عبد الرحمن الشرقاوي، وكل هذه مسميات تحجب عن القارئ المسلم الصفة البارزة
والمهمة الأساسية وهي (النبوة) المؤيدة بالوحي.
إن
دراسة حياة النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- تحت أي اسم من شأنها أنْ
تعجز عن استيفاء جوانب هذه الشخصية العظيمة، وليس ثمة غير منهج واحد هو أنه نبي
مرسل من قبل الله -تبارك وتعالى-، فإن هذا الفهم وحده هو الذي يكشف عن الحقائق
الناصعة ويكشف عن صفحات السمو والكمال الخلقي والعقلي والنفسي.
والتقطها الأستاذ "العقاد" واختزنها في ذاكرته ليجعلها عنواناً لدراسة عن
الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - التي بدأها عام (1942).
ومن مجمل الدراسات التي دارت يُكتشف أن هذه النظرية تجري حول التميز والذكاء
والتفوق في مجال الفن, والموسيقى, والتصوير, ولم يرد في الأسماء التي تناولتها
الأبحاث اسم من أسماء المصلحين أو أصحاب الرسالات.
ولقد قصر الدكتور "أمير بقطر" العبقرية على الذكاء. وقال إنها تجيء عن طريق
الوراثة وإنها غير مكتسبة. وأوردت دوائر المعارف وصفاً للعبقرية: بأنها لغة
الكامل في كل شيء ويكون مبلغ رقم قياس ذكاء العبقري فوق المعتاد. وبينما يقصر
"أمير بقطر" العبقرية على حالة اختبار الذكاء فإن "فريد وجدي" يرى أنها (هبة
إلهية ثمرتها فوق القدرة البشرية يمنحها الله لبعض الأفذاذ لتبرز على ألسنتهم
أو على أيديهم أمور لا يستطيع العقل البشري أن يستقل بإيجادها).
ولعل هذا هو المعنى الذي جعل العقاد يختارها ليصف بها الرَّسُول - صلى الله
عليه وسلم - مع أن جميع
الغرب لم يصفوا بها أحداً من الأنبياء المسيح أو موسى -عليهما السَّلامُ-.
والحقيقة أنَّ مقاييس الجاه والثروة والعظمة التي جاءت بها العلوم المادية
الحديثة تختلف تماماً عن التقديرات التي جاءت بها النبوة.
وإنَّ أي قدر من الموهبة الإلهية التي توصف بها العبقرية يختلف اختلافاً واضحاً
عن النبوة.
وبالرغم من الاختلاف في فهم العبقرية وبين كتابات العشرات من الباحثين
الغربيّين فإنَّ أحداً لا في الغرب ولا في الشرق أدخل النبوة والأنبياء في هذه
الدائرة. ولكن يبدو أنّ الأستاذ "العقاد" أراد أن يتفوق على صاحبيه (هيكل وطه)
وقد سبقاه بعشر سنوات في كتابه السيرة باتخاذ هذا المصطلح.
يقول الدكتور "محمد أحمد الغمراوي" : يجب أن يُقرأ "للعقاد" باحتياط وهو يكتب عن
الإسلام فالعقاد ابن العصر الحديث أخذ ثقافته مما قرأ لأدبائه وعلمائه وهو شيء
كثير وليس كل ما كتبه المستشرق يقبله المسلم, ولا كل نظريات الغرب متفق وما
قرره القرآن, ولكن العقاد اعتقد من هذه النظريات ما اعتقد، فهو ينظر إلى القرآن
من خلال ما اعتقد منها, ويبدو أن من بين ما اعتقده العقاد نظرية (فريزر) في
نشوء الأديان, فهي عنده ليست سماوية ولكنها أرضيت نشأت بالتطور والترقي إلى
الأحسن، ومن هنا تفضيل العقاد للإسلام على غيره من الأديان فهو آخرها وإذن فهو
خيرها، ويقول: إن لم يكن هذا هو تفسير إطلاق اسمية الغربيّين على كتابيه (عبقرية
محمد، والفلسفة القرآنية) فهذه التسمية خطأ منه ينبغي أن يتنبه إليه قارئ
الكتابين من المسلمين لينجو ما أمكن مما توحي به التسميات من أنَّّ
محمداً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- عبقري من العباقرة لا نبي ولا رسول
- صلى الله عليه وسلم - بالمعنى الديني المعروف في الأديان المنزلة. ويؤكد هذا الإيحاء أنْ جاء الكتاب
واحداً من سلسلة كتب العبقريات الإسلاميّة ولن يكون أولها. فالناشئ الذي يقرأ
بعد عبقرية محمد, عبقرية أبي بكر, وعبقرية عمر مثلاً لا يمكن أن يَسْلم من
إيحاء خفي إلى نفسه أنّ محمداً وأبا بكر وعمر من قبيل واحد، عبقري من عباقرة
وإن يكن أكبرهم جمعياً. كالذي سمى النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-
بطل الأبطال فأوهم أنه واحد من صنف ممتاز من الناس متجدد على العصور بدلاً من
صنف اختتم به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- صنف الأنبياء والمرسلين من عند
الله, فالنَّبيُّ والرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - يأتيه الملك من عند الله بما شاء الله من وحي ومن
كتاب, ولا كذلك العبقري ولا البطل, فالنبوة والرسالة فوق البطولة والعبقرية
بكثير. وكم في الصحابة-رضوان الله عليهم -من بطل ومن عبقري, وكلهم يدين له بأنه
رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- إلى الناس كافة ذلك العصر وما بعده
وأنه خاتم النَّبيّين.
ويقول الأستاذ "غازي التوبة" : كتب "العقاد" العبقريات دفاعاً عن العظمة
الإنسانية في وجه المتطاولين والحاقدين والمشوهين. هذه العظمة الإنسانية التي
تحتاج إلى رد الاعتبار في عصره ودفاع العقاد عن العظمة الإنسانية هي حلقة من
دفاعه عن الفرد وإيمانه به. ولكن ما هي الأخطار التي هددت الفرد والعظمة وجعلته
يستل قلمه سنة (1942) ليكتب أول عبقرية من عبقرياته؟ في الحقيقة أن الأخطار
المباشرة التي هددت الوجه الآخر من إيمان العقاد بالفرد هي النظام الديمقراطي.
هددته ثلاثة أخطار هي الفاشية, والشيوعية, والمد الإسلاميّ. تصدى للفاشية في
(هتلر في الميزان) وتصدى للشيوعية في كتابيه (الشيوعية والإنسانية) و (أفيون
الشعوب).
أما تيار المد الإسلاميّ فحاربه بسلاح الشخصيات فكتب العبقريات ليؤكد صحة
أفكاره في أولية الفرد في التاريخ وأحقيته كمحرك له, وليطعن ويشوه الإيمان
بالجانب الجماعي في الإسلام, ويشكك في دور العقائد والتربية في توجيه الأشخاص،
فالعظيم عظيم بفطرته, والعبقري عبقري منذ نشأته، كذلك فقد ركز العقاد على
العوامل الوراثية والتكوين الجسماني والعصبي، ووضع هذه الأسباب في المرتبة
الأولى في توجيه الشخصية, بحيث تأتي العقيدة الإسلاميّة في المرتبة الثانية, إن
كان هناك دور للعقيدة أو التربية.
والعقاد في موقفه من هذا متأثر ببعض المدارس الأوروبية التي تقدس الفرد
والفردية, وتفسر مختلف حوادث التاريخ على هذين الأساسين، وقد أورد العقاد ذكراً
لإحدى هذه المدارس التي تحدد صفات العبقري انطلاقاً من تكوينه الجسدي وهي مدرسة
(لومبروزو).
وهكذا قَوْلب العقاد الشخصيات الإسلاميّة ضمن نظرياته الجاهزة في الفرد
والطوابع الفردية. وهو في هذا قد حجب الجانب الرباني المعجز، وحجب الغيبيات.
فهو في موقفه من انتصار الرَّسُول-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-في غزواته لا
يعرض مطلقاً لوعد الله-تبارك وتعالى-لرسوله ورعايته, والملائكة المقاتلين,
والنعاس الذي تغشى المسلمين أمنةً, والمطر الذي طهرهم, والرياح التي اقتلعت
خيام المشركين, وتثبيته لأفئدة المقاتلين, وقذفه الرعب في قلوب الكافرين، فليست
العوامل المادية هي قوام مكانة الرَّسُول العسكرية, ولكن العوامل الربانية يجب
أن تضاف إلى ملكات الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - في التخطيط.
كذلك فهو لم يكشف عن دور الإسلام في بناء شخصية الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم
-، فالإسلام هو الذي
أعطى النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ذلك الإيمان بالله-تبارك
وتعالى- والإيمان بأحقية الموت في سبيل الله وذلك القدر من الثبات والتضحية
والإقدام والعزم والصبر.
هذا الجانب الذي تجاهله العقاد واكتفى بالمقارنة بين سيدنا محمد -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وبين نابليون في النواحي المادية و العسكرية. كذلك لم يتبين
الفارق بين حروب محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وبين حروب نابليون وأنها
كانت خالصة في سبيل الله ونشر الإسلام وليس في سبيل المطامع والسيطرة.
ذلك أنه ناقش عبقرية الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - العسكرية في ضوء العبقريات البشرية، ولم ينتبه
للفوارق العميقة التي تتميز بها شخصية الرَّسُول بوصفه نبياً مرسلاً أو تلك
التي هداه إليها الإسلام، وأن تميزه هذا يختلف عن البطولات والعبقريات البشرية
الأخرى.
ومن هنا يبدو النقص في وزن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ- بالعبقريات البشرية الأخرى.
كذلك فإن هذا التميز الذي عرفت به شخصية محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ- (نبياً ومرسلاً وهادياً) تختلف في المقارنة بينه وبين الأبطال
العالميين الآخرين من ناحية, كما أنَّ شخصيته تختلف بينه وبين أبي بكر, وعمر,
وغيرهم.
لقد تحدث العقاد عن الجانب المادي في شخصية
الرَّسُول
- صلى الله عليه وسلم -
وحجب تماماً الجانب الروحي المتصل بالوحي وأظهره كمجرد إنسان يعمل
بمواهب ممتازة وملكات خاصة، وهكذا فإن (العبقرية) التي حاول العقاد أن يقدم
رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- من خلالها، كان حجمها ضيقاً ومجالها
ناقصاً، وأخطر ما أخذ عليه هو أنه لم يظهر أثر الإسلام في بناء شخصية الرَّسُول
- صلى الله عليه وسلم -
وهو العامل الأكبر في حياته وتصرفاته على النحو الذي وصفته السيدة عائشة -رضي
الله عنها- بقولها: (كان خلقه القرآن)(1)
هذه الربانية الخالصة التي تعلو
على طوابع البشر. وقد وصفها القرآن في قوله تعالى:قُلْ
إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(162) سورة الأنعام.
كذلك فقد تحدث عن افتتان المسلمين بشخص الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - وانبهارهم بمواهبه واعتبر
إعجابهم به سبباً وحيداً لدخولهم في الإسلام, وعزا اجتماع الصداقات المتنوعة
حوله بأنه كان نتيجة لمزاياه النفسية، وبذلك أنكر عظمة الإسلام نفسه في إيمان
أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وليس من شك أنَّ إعجاب المسلمين بالرَّسُول
- صلى الله عليه وسلم - له أهميته في
مرحلة الدخول في الإسلام ولكن تقدير المسلمين للإسلام هو العامل الذي ثبتهم بعد
ذلك على الإيمان بالإسلام وحفزهم للدفاع عنه.
إنَّ الأستاذ العقاد وقد حارب مذهب التفسير المادي للتاريخ الذي قدمه ماركس
والشيوعية حرباً لا هوادة لها خضع مع الأسف للمذهب النفسي المادي الذي لا يعترف
بالآثار المعنوية المترتبة على الإيمان والعقيدة في بناء الشخصية, كما تجاهل
جانب الغيبيات ولم يفهم النبوة فهماً صحيحاً، ولذلك فإنَّ الجانب الروحي القادر
على العطاء في بناء الشخصيات والذي صنع شخصية رسول الإسلام - صلى الله عليه
وسلم - تراه باهتاً غائماً
عنده، وذلك لأنه اعتمد في دراسة الشخصيات والبطولات على مذاهب غربية تتجاهل
النبوة, والوحي والغيبيات, والمعجزات، ولا تجعل هذه العوامل الروحية والمعنوية
أي وزن وأي اعتبار, وإنما قامت على
جوانب الحس, وتركيب الإنسان المادي,
والوراثيات وغيرها
منقووول للافادة