عطش إنسان فسعى آخر له بشربة، فوجد لبناً، فقدّمه له - وهو أيضاً شديد العطش - ووقف ينظر إليه، فلما انتهى قال: شرب حتى ارتويت..!!
هل تتخيل قارئي الكريم إنساناً بمثل هذا الخلق، بل قلْ بمثل هذا الحب؟!
إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.. كان في رفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في
الهجرة إلى المدينة، والقصة معروفة كما جاءت بها روايات السيرة ..
يقول أبو بكر رضي الله عنه: كنا في الهجرة وأناعطشان جداً، فجئت بمذقة لبن
فناولتها للرسول صلى الله عليه وسلم، وقلت له: اشرب يا رسول الله، يقول أبو
بكر: فشرب النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى ارتويت!!
لم أجد حباً كحب أبي بكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- بشكل خاص - والصحابة بشكل عام..
حباً يفوق كل وصف .. وكل تخيل إنساني ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي
نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده، والناس
أجمعين". قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! لأنت أحب إليّ من كل شيء إلاّ
من نفسي. فقال صلى الله عليه وسلم: لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك
من نفسك!! فقال له عمر: فإنك الآن أحب إليّ من نفسي، فقال: الآن يا عمر ...
حب يملأ القلب.. حب يفيض على الآخرين.. حب حقيقي.. لاحب مصالح ..
لم أتخيل أن يتجاوز حب أبي بكر لرسول الله أن يشعر هو - بالارتواء - بينما
النبي هو الذي شرب.. تقارب الأرواح.. والتصاق القلوب ينعكس حتى على الأجسام
..
بالطبع هناك الحب الفطري.. حيث تفضل الأم أبناءها .. ألا ترى في قصة المرأة التي
حصلت على تمرة فقسمتها بين بنتيها، وبقيت جائعة، لكنها سعيدة بتلذّذ
طفلتيها بالتمرة ..
الحب ليس كلاماً على اللسان وليس شعراً من البيان.. الحب ممارسة وسلوك.. الحب
عطاء يتبعه عطاء للمحبوب.. دون انتظار لعائد ونتيجة.. الحب فورة نفسية
وعاطفية تنتقل للمحبوب، ويرى آثرها في الواقع ..
في الهجرة.. داخل الغار.. يضع أبو بكر كل يد في جحر متلمساً أفعى أو عقرباً
أن تصيبه بدلاً من أن تخرج فتعضّ المحبوب صلى الله عليه وسلم ..
الحب هو التضحية والإيثار لمن تحب، فما بالك إن كان رسول الله..
نذكر قصة الشهداء المسلمين في إحدى المعارك عندما طلبوا الماء، فعندما جيء
بالماء آثر كل واحد منهم أخاه؛ فهو أحوج منه حتى لم يشرب أحد منهم، وماتوا
جميعاً عطشاً حباً وتضحية بعضهم لبعض ..
يقولون: إن الحب ميل القلب.. لكن السؤال: ماهو القلب؟ هل هو تلك المضخة في الصدر؟! وما معنى الميل؟ هل هو فقدان للاتجاه؟!
يبقى الحديث عن الحب كلاماً تنظيرياً ما لم يكن حقيقة ممارسة وآثاراً ملموسة..
إن الزعم شيء سهل.. والادّعاء ليس بالصعب... والتعبير عن مكنونات النفس
أيضاً ليس بالمستحيل، لكن الواقع يصدق ذلك أو يكذبه..
أعرف ابناً أهدى لوالده بكلية.. وسمعت عن ابن تبرع لوالده بجزء من كبده .. هذه
من علامات الحب ودلائل المودة الصادقة والعاطفة الحقيقية ..
لم
يرصد التاريخ حباً كحب أصحاب محمد لمحمد... حباً يفوق المال والأهل والولد
وأيضاً النفس.. حباً انعكس طاعة والتزاماً وانقياداً وتضحية ..
وفي السيرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي
يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية، حليف بن عدي بن النجار وهو
مستنتل من الصف - قال ابن هشام: ويقال: مستنصل من الصف - فطعن في
بطنه بالقدح وقال: استوِ يا سواد، فقال: يا رسول الله، أوجعتني وقد
بعثك الله بالحق والعدل؛ قال: فأقدني. فكشف رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- عن بطنه، وقال: استقد!! قال: فاعتنقه فقبل بطنه؛
فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضر ما
ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله
صلى الله عليه وسلم بخير ...
ماهذا الحب المتفجر والعاطفة المتدفقة..؟! هل وُجدت عند أحد في التاريخ؟!!