يتكئ بقوة على فخذها.. يركض من بعيد.. ويلقي بجسده على ظهرها.. يضع يديه حول عنقها متعلقاً بها..
يغضب.. فيسحب شعرها..
يركلها..
يطالبها بكامل حقوقه.. ويطالب بحقوقها له أيضاً!!
يبدي تذمره.. يتمرد.. يعود..يهدأ.. ثم ينام في حضنها..
******
هل يجرؤ الصغار على الاستلقاء في أحضان أي شخص غير والديهم وإخوتهم ومن يكنون لهم كل الحب؟
هل يجرؤون على ممارسة عدوانيتهم الصغيرة.. وتمردهم.. والعودة دون تقديم ورقة اعتذار..إلاّ مع أمهاتهم..
ولكن..ذلك الطفل-الذي أود التحدث عنه- قد فقد أمه..ولست أعرف السبب تحديداً..إلاّ أنه حتماً صورة
مشابهة لآلاف الصور في مجتمعنا.. وملايين الصور في العالم..
اضطر للتنازل عن الكثير من هذه الحقوق..لأنه ليس لديه "أم" تقدمها له..
إن القبول الاجتماعي في مرحلة الطفولة.. وما نسيمه بـ(الحب)هو أهم تقبل يجب أن يحصل
عليه الإنسان.. ومهما حدث بعد ذلك من نفور..أوكره..أو مجابهة..قد يمكن أخذه بالحكمة..
والمعالجة السهلة.. ويمكن للفرد أن يتغلب على ذلك بالمواجهة والصمود..ففي طفولة الرسول صلى الله عليه وسلم.. قال تعالى: (
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) [سورة الضحى: 6]
فابتداء من والدته.. مروراً بمرضعته حليمة السعدية وزوجها اللذين حرصا على حضانته فترة
من الزمن لما رأيا من أثر بركته في بيتهما طوال مدة وجوده معهما.. وكذلك جده الذي
"رق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده"( ) وانتهاء بعمه أبي طالب الذي كثر ماله بعد
أن كفله واحتواه.. نجد أن الحب توفر له من جميع الجهات.. وصُبّ عليه صبًّا.. ولو لم يكن
لذلك الحب أي أهمية لما كان من المنن التي ذكرها الله تعالى في سياق النعم الأخرى التي حظي
بها الرسول صلى الله عليه وسلم..وفي قصة موسى عليه السلام.. يقول الله تعالى ممتناً عليه: (
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)
أي "حبّبتك إلى عبادي"( )وهذا شاهد آخر على أهمية الحب في مرحلة الطفولة..
ويذكر الكاتبان(ستيف بيدولف وشارون بيدولف)في كتابهما(سر الطفل السعيد):
"في عام 1954م انتهت الحرب العالمية الثانية، وكانت أوروبا تعيش في حالة دمار..
وكان من المشاكل الإنسانية التي يجب مواجهتها العناية بآلاف الأيتام الذين فقدوا آباءهم في الحرب..
إما بسبب الوفاة، أو بسبب الانفصال الدائم نتيجة الحرب..
فقامت سويسرا -التي نجحت في أن تبقى بمنأى عن الحرب- بإرسال بعثة طبية للمساعدة ف
ي حل بعض هذه المشاكل؛ إذ تولى أحد الأطباء مهمة البحث عن أفضل وسيلة للعناية بالأيتام الرضع..
سافر هذا الطبيب إلى كل أنحاء أوروبا، وشهد الكثير من أنواع العناية بالأيتام كي يختبر أكثر
هذه الأنواع نجاحاً، وفي أثناء جولته رأى الكثير من التناقضات؛ ففي بعض الأماكن كانت المستشفيات
الأمريكية الميدانية توفر للأطفال أسرة من الصلب في عنابر صحية؛ حيث يحصل الأطفال
على وجبتهم الغذائية كل أربع ساعات من اللبن المخصص للرضع بوساطة
ممرضات متمرسات يرتدين زياً خاصاً..
وعلى الطرف الآخر رأى في بعض القرى الجبلية النائية إحدى الشاحنات وهي تحمل عدداً
من الأطفال، وإذا قائد السيارة يتوقف ويسأل: "هل يمكنكم العناية بهؤلاء الأطفال؟"، ث
م يترك نصف دستة من الأطفال وهم يبكون ليتولى أهل القرية رعايتهم، وهناك يعيش
الرضع محاطين بالأطفال والكلاب والماعز في أحضان الريفيات، يتغذون على ألبان
الماعز في ظل حياة عشوائية..
وقد اتبع الطبيب السويسري طريقة بسيطة للمقارنة بين الطرق المختلفة للعناية بالأطفال.
لم يكن بحاجة حتى إلى قياس وزن الأطفال أو البحث عن الابتسام والتواصل البصري..
ففي أثناء تلك الأيام التي كانت قد تفشى فيها مرض الأنفلونزا والدوزنتاريا لجأ الطبيب
إلى أبسط طريقة إحصائية وهي قياس معدل الوفيات بين الأطفال..
غير أن ما توصل إليه كان بمثابة مفاجأة.. فبينما كانت الأوبئة تجتاح أوروبا وتحصد أرواح
الكثيرين أثبت الطفل الذي كان يحيا في القرى البدائية كفاءة تفوق نظيره الذي
يحظى بكل الرعاية الصحية في المستشفيات.
لقد اكتشف الطبيب شيئاً ما كانت العجائز من السيدات قد اكتشفنه منذ زمن بعيد.. لقد اكتشف أ
ن الأطفال يحتاجون إلى "الحب" لمواصلة الحياة..
لقد كان الأطفال في المستشفى ينالون كل شيء عدا الحب والتحفيز، أما الأطفال في القرى
فقد كانوا يحظون بقدر أكبر من العناق والمداعبة، ويتعرضون لأشياء جديدة أكثر بكثير
مما كانوا يعرفونها، ولقد ساعدهم هذا-بالإضافة إلى العناية المعقولة بالمتطلبات الأساسية
للطفل على مقاومة الأمراض".
إلى كل من يهمه الأمر..
وإليكِ أنت يا سيدتي..يا زوجة الأب..
نعلم..أنه من الصعب أن نكون عادلين..
من الصعب أن نسمح لجسد لا يمت لنا بصلة أن يذوب في أجسادنا، وأن نتعايش معه..
وأن نتنازل عن الكثير من أجله..
أن نقتطع من أوقاتنا الحميمة أحياناً أوقاتاً من أجلهم..
من الصعب أن نعامل أبناء الآخرين كما نعامل أبناءنا..
من الصعب أن نكون رقباء على أنفسنا..
ولكن..لأتساءل..ولتتساءلوا معي:هل نتمنى أن تلقي بنا الحياة في الجحيم؟
هل نرضى بأن نكون تحت أيدي المتسلّطين؟
هل تخيّلنا أنفسنا ضعفاء؟
هل نؤمن بأن هناك يوماً سننال ممن نال منا..وسينال منا مَن قد نلنا منه؟
هل نحب لأطفالنا أن يناموا جياعاً.. وأن تضيع ملامحهم بين الملامح.. وأن تطير قلوبهم مع الرياح؟
هل نضمن بأننا أقوياء..اليوم.. وغدا.. وبعد حين؟
قال تعالى:
(
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) تنهال الأسئلة..تتناثر..ألمّ شظاياها خجلاً منكم يا سادتي.. فهي أسئلة.. وإن علمنا إجاباتها..فإننا
قد لا نتمكن من تطبيقها..إنها أسئلة تجبر الدمع على أن يفارق المآقي..رغماً عنا..
زوجة الأب ..
كوني وجهاً مشرقاً.. كوّني له طريقاً ممهداً.. أمسكي يده.. واملئي حياته بالأمل والحب..
أفهميه بأن الحياة لم تنته بعد..
فهناك أشخاص كثيرون يحبونه.. ويريدون سعادته.. وأنت أحد هؤلاء الأشخاص. وإن لم تكوني كذلك.. فـ(
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)..