كثير من الناس يتهاون بشأن الطلاق، فتراه يرسل لسانه بكلمة الطلاق دونما النظر في العواقب.
وكثيرًا ما يقع الطلاق لأسباب تافهة؛ فيقوّض سعادة قائمة، ويبدّد شمل أسرة متماسكة.
ومن هذه الأسباب نزوة غضب رعناء تستبدّ بالمرء، فتعمي بصره، وتشلّ تفكيره، وتطيش بعقله، وتقوده إلى الطلاق.
وكثيرًا
ما يندم الزوج إذا طلّق؛ فبعد أن كان آمنًا في سربه، ترفرف عليه السعادة،
والطمأنينة، إذا به يقلّب كفيه، ويقرع سنه ندمًا على تطليقه زوجتَه.
ومن
هنا تتنغّص حياته، ويتكدّر عيشه؛ فالطلاق حلّ عقدةٍ، وبتُّ حبال، وتمزيقُ
شملٍ، وزيالُ خليط، و انفضاض سامر؛ ففيه كل هذه المركبات الإضافية التي
استعملها العرب، وجرت في آدابهم مجرى الأمثال، من التياع وحرارة، وحسرة،
ومرارة، مع ما يصحب ذلك من الحقد، والبغض، والتألم، والتظلم.
فلهذه
الملابسات التي هي مقتضى الفطر السليمة، والطباع الرقيقة شرع الإسلام
الطلاق مقيدًا بقيود فطرية، وقيود شرعية؛ فاعتمد في تنفيذ الطلاق -بعد فهم
المراد - على إيمان المؤمن، وشرع له من المخفّضات ما يهوِّن وقعه،
كالتمتيع، ومدِّ الأمل بالمراجعة، وتوسيع العصمة إلى الثلاث؛ حتى تمكن
الفيئة إلى العشرة.
وكما
أن هناك من يفرِّط فيستعجل في شأن الطلاق فهناك من يفرط من جهة أخرى،
فيمنع الطلاق، ولا يُقْدِمُ عليه مهما كان الوضع، ومهما توافرت الدواعي له.
والحق قوام بين ذلك؛ فلا الاستعجال في شأن الطلاق بالأمر المحمود، ولا تركه إذا توافرت أسبابه بالمحمود كذلك.
إن
الطلاق في الإسلام لَمن أعظم الأدلة على أن هذا الدين من لدن حكيم عليم؛
فالله -عز وجل- إنما شرع الطلاق لحكمة بالغة، ومصلحة راجحة ظاهرة؛ فلماذا
نمنعه إذا تحققت دواعيه وتوافرت أسبابة؛ فيكون ذلك المنع سببًا في عذاب
شخصين وشقائهما؟
فلماذا هذا العذاب؟ ولمصلحة مَنْ ذلك الشقاء؟ وإلى متى يظل البيت جحيمًا ملهبًا كلما خبت ناره زادها الخلاف سعيرًا؟
إن
الزواج نعمة عظمى، وقد امتن الله به على عباده في غير موضع من كتابه؛
فالزواج عقد بين قلبين، ومزْج بين روحين، وفي الأخير تقريب بين جسمين؛ فإذا
تراخت عراه بين القلبين ذهب السكون والمودة والرحمة.
ومن هنا يُسعى في محاولة الجمع، والإصلاح، ورأب الصدع.
فإذا
زاغت الفطرة من أحد الزوجين عن محورها، أو طغت الغرائز الحيوانية على
الفضائل الإنسانية في أحدهما أو كليهما، وباءت محاولات الإصلاح بالإخفاق -
فالله أرحم من أن يكلف عبادة تحمّل هذا النوع من العذاب النفسي، وهذا الجمع
بين قلبين لم يأتلفا، وطبعين لم يتّحدا، وروحين تناكرا، ولم يتعارفا.
ثم
إن من الأزواج من لا يكتفي بالتسريح الجميل إذا لم يتوافق مع زوجته، فتراه
إذا فارقها بطلاق أو خلع يُسفُّ في ذمها، ويسرف في ذكر مساوئها، وربما
رماها بما هي براء منه، وربما نفَّر منها من أراد الزواج بها.
وربما ذمّها عند أولادها منه، وحثّهم على عقوقها وهجرانها.
وهذا
من الظلم المبين، والعدوان العظيم؛ ذلك أن الشارع أمر الزوج إذا فارق
زوجته أن يُسَرِّحَها سراحًا جميلاً، وأن يسرحها بإحسان، فيستر ما وقف عليه
من عيوب زوجته، ويمسك عما لا يجوز ذكره.
ثم إن ملك الله واسع، وفضله عظيم؛ فله عنها متّسع، ولها عنه متّسع.
ثم إن رغبات الناس تتباين؛ فما لا يناسب الزوج الأول قد يناسب غيره، وما يُعدّ عيبًا ربما كان في نظر الآخرين مزية.
هذا وأعرف قصة طلاق حصلت لأحد الناس الذي أعرفهم تمامًا، ولو أنني لم أقف على تلك القصة لربما ظننت أنها ضرب من الخيال.
هذا الرجل مكث مع زوجته سنوات؛ ورُزق منها بأولاد، وكان هو من مدينة، وزوجته من مدينة أخرى.
وصار بينهما شيء من الخلاف بسبب اختلاف طبيعتهما؛ فطبيعته تميل إلى البرود، وطبيعتها تميل إلى الحرارة.
وفي
يوم من الأيام جلس معها، وقال لها: يا أم فلان لا ينبغي أن تستمر حالنا
هكذا في نزاع، وشدّ وجذب، فإما أن نتفق؛ أو نفترق، إما إمساك بمعروف، أو
تسريح بإحسان؛ فقالت: دعني أفكر في أمري، وأستخير ربي، وآمل منك أن تقوم
بذلك.
وبعد
مدة قالت له: أرى أن المناسب لي ولك أن نفترق؛ فلعل الله يغني كلَّ واحد
منا من سعته، فقال لها: إذًا نفكر على بركة الله في طلاقنا.
وفي
يوم من الأيام ذهب بها إلى بيت أهلها، وتوجَّه إلى المحكمة، وأثبت الطلاق،
ورجع إليهم، وأخبرهم بذلك، وتناول الغداء معهم، ثم ودّعهم.
يقول:
فرجعت إلى بيتي، وبكيت حتى أفرغت أكثر ما عندي؛ حزنًا على تلك العشرة
الطويلة، ثم اتصلت بمطلقتي وأمِّها؛ لأن والدها متوفى، وقلت لها: الأولاد
بيننا، إن أردتم أن يكونوا عندي فبها ونعمت، وإن أردتم أن يكونوا عندكم
فالأمر كذلك.
فقالا:
نريد أن يكونوا عندنا، فقلت: إذًا أخبروني عن النفقة التي تناسب حتى
أرسلها بين الفينة والأخرى، فاتفقنا على مبلغ، وصرت أرسله لهم، وأتابع
أولادي، ويزورونني بين الفينة والأخرى، وأزورهم أنا كذلك، وأتواصل مع
والدتهم في شأنهم.
وبعد
مدة تزوّجتُ ورزقتُ بأولاد، وتزَّوجَتْ مطلقتي، ورُزقت بأولاد، واستمرت
الصلة بيننا بشأن الأولاد، وإذا ذهبتُ إلى مدينتهم وحدي أو بصحبة أحد
زملائي -أزور جدة أولادي، وأتناول عندهم الغداء، أو العشاء، وأسلّم على
أولادي؛ ثم أرجع إلى بلدي.
وإلى يومنا هذا وأنا سعيد بزواجي الأخير، وهي كذلك، وأولادنا يسيرون في دراستهم وشتى أمورهم، وكأنهم بين والديهم.
فقلت
له: ألم يحدث بينكما خلاف طيلة تلك الفترة؟ قال: لا، بل أنا شاكر لهم حسن
تربيتهم لأولادي، ويكفي ما حصل من طلاق بيننا؛ فلا داعي أن نزيده سعيرًا
بالقيل والقال، وبكل ما ينغّص عيشنا، ويؤذي أولادنا.
هذه قصة صاحبنا الذي أعرفه تمام المعرفة، وأعرف حاله إلى يومنا هذا.
وهي
تعطينا درسًا في حسن التعامل مع الخلاف، بل مع صورة من أعظم صور الخلاف
ألا وهي الطلاق، فمع بالغ الأسف أن الطلاق -غالبًا- إذا حصل لم يكتف كلّّ
طرف من الأطراف بلوعة الفراق، وآثاره، بل تراهم يُطْعِمون نار الخلاف
جَزْلَ الحطبِ؛ فكلما خبت زادوها سعيرًا.
والنتيجة أنهم يخسرون جميعًا خسارة فادحة تَطَال صحتهم، وأوقاتهم، وربما أموالهم، وأديانهم.
ولو أنهم امتثلوا أمر ربهم -جل وعلا- بالإمساك بالمعروف، أو التسريح بالإحسان لكان ذلك خيرًا وأحسن تأويلاً.
د. محمد بن إبراهيم الحمد