بسم الله الرحمن الرحيم
كيفيــــبتلى الصـــــــــالحون في الـــــــــــــدنيا واللهيقــــــــــــــول في القرآن: (فــلَــــنَــــحيينــهمحيــــــــــــــــــــاة طيبة)؟
السؤال: هناك بعض الأمور التي يظهر لي أن فيها تعارضاً, وأحتاج منكم أن تــنوروني بعلمكم جزاكم الله خيراً .
نجدأن الصـــــــــالحين يبـــــــــــــــــتلون في الدنيا ، وعلى قدر قوةالإيمان يز يد البــــــــــــــــــلاء ، والله يقول في القرآن فلَنَحيينهم حياة طيبة ).
الجــــــــــــــــــــــــــــواب : الحمــــــــــــــــــــــــــــــد لله
أوووووووووووووولاً :
يجبأن يُعلم أن ما أخبر الله به لا يمكن أن يتعارض مع الواقع أبداً ، لأنأخبار الله تعالى بلغت الغاية في الصدق ، قال الله تعالى :
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا))
وقال : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا)
وقال : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا)
ثــــــــــــــــــــــــــــــــــــانياً :
لاشك أن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء , وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ,وفي الابتلاء للعبد حكَم وفوائد كثيرة ،في الدنيا ، والآخرة .
وانظر في ذلك : جوابي السؤالين : ( 35914 ) و ( 21631 ) .
وأمامعنى " الحياة الطيبة " الوارد ذِكرها في قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَصَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَمُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُحَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوايَعْمَلُونَ )
فالأقوالفيها متنوعة ،وليس منها أن الله يفتح للمؤمن العامل للصالحات الدنيا ،ويقيه الحزن ، والفقر ،والسوء ، فالواقع يشهد بغير هذا - بل إن أولئك منأكثر الناس ابتلاء بمثل هذا - ،
وجماعمعنى الحياة الطيبة في الآية : حياة القلب ، وسعادته ، وانشراحه ، وإذارُزق شيئا من متاع الدنيا فيكون حلا لاً يقنع به ، وعلى ذلك جاءت أقوالالمفسرين .
1_ذَكرالإمام الطــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبري رحمــــــــــــهالله أقـــــــــــــــــــــوال العلــــــــــــــــــــــــــــماء فيمعنى:
" الحـــــــــــــــــــــــــياة الطـــــــــــــــــــــــــــــــــيبة " ، وهي :
أ. يحييهم في الدنيا ما عاشوا فيها بالرزق الحلال .
ب. يرزقهم القنــــــــــــــــــاعة .
ج. الحياة الطيبة : الحياة مؤمنًا بالله عاملا بطاعته .
د. الحياة الطيبة : السعادة .
هـ. الحياة في الجنة .
واختاررحمه الله من هذه الأقوال - غير المتضادة - : القول الثاني ، فقال :
وأولىالأقوال بالصواب : قول من قال : تأويل ذلك : فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة؛ وذلك أن من قنعـــــــــــــــــه الله بما قسم له من رِزق : لم يَكثرللدنيا تعبُه ، ولم يعظم فيها نَصَبه ،ولم يتكدّر فيها عيشُه باتباعه نفسهما فاته منها وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها ...
وأماالقول الذي رُوي عن ابن عباس أنه الرزق الحلال : فهو مُحْتَمَل أنيكونمعناه الذي قلنا في ذلك ، من أنه تعالى يقنعه في الدنيا بالذي يرزقه منالحلال، وإن قلّ : فلا تدعوه نفسه إلى الكثير منه من غير حله ، لا أنهيرزقه الكثير من الحلال ؛ وذلك أن أكثر العاملين لله تعالى بما يرضاه منالأعمال : لم نرهم رُزِقوا الرزق الكثير من الحلال في الدنيا ، ووجدنا ضيقالعيش عليهم أغلب من السعة .
" تفسير الطبري " ( 17 / 291 ، 292 ).
ب. وقال ابن القيم رحمه الله :
وأطيبالعيش واللذة على الإطلاق : عيش المشتاقين ، المستأنسين ،فحياتهم : هيالحياة الطيبة في الحقيقة ، ولا حياة للعبد أطيب ، ولا أنعم ، ولاأهنأمنها ، فهي الحياة الطيبة المذكورة في قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًامِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةًطَيِّبَةً)وليس المراد منها الحياة المشتركة بين المؤمنين والكفار ،والأبرار والفجار ، من طيب المأكل ، والمشرب ، والملبس ،والمنكح ، بل ربمازاد أعداء الله على أوليائه في ذلك أضعافاً مضاعفة ، وقد ضمن الله سبحانهلكل مَن عمل صالحاً أن يحييه حياة طيبة ، فهو صادق الوعد الذي لا يخلفوعده ، وأي حياة أطيب من حياة اجتمعت همومه كلها ، وصارت هي واحدة فيمرضات الله ،ولم يستشعب قلبه ، بل أقبل على الله ، واجتمعت إرادته ،وأفكاره التي كانت منقسمة ،بكل واد منها شعبة على الله ، فصار ذكر محبوبهالأعلى ، وحبه ، والشوق إلى لقائه ،والأنس بقر به ، وهو المتولى عليه ،وعليه تدور همومه ، وإرادته ، وتصوره ، بل خطرات قلبه ... .
" الجواب الكافي " ( ص 129 ، 130) .
وقال رحمه الله أيضاً :
وقدفُسرت الحياة الطيبة : بالقناعة ، والرضى ، والرزق الحسن ، وغيرذلك ،والصواب : أنها حياة القلب ، ونعيمه ، وبهجته ، وسروره بالإيمان ، ومعرفةالله ، ومحبته ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ؛ فإنه لا حياة أطيب منحياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه ، إلا نعيم الجنة ، كما كان بعض العارفينيقول : " إنه لتمربي أوقات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا :إنهم لفي عيش طيب " ،
وقال غيره : " إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً " .
" مدارج السالكين " ( 3 / 259 ) .
والأقوالفي هذا المعنى كثيرة ، وكلها تدل على أن الحياةالطيبة هي حياة معنوية ،يعيشها قلب المؤمن مطمئناً بقضاء الله تعالى ، ومنشرحاًبما قدره عليه ،وسعيداً بإيمانه بر به تعالى ، وليس المراد من الحياة الطيبة – قطعاً –النعيم البدني ، وانعدام الأمراض والفقر وضيق العيش .
وننبهإلى أن القول بأن الحياة الطيبة إنما تكون الجنة : بعيد عن معنى الآية ؛لأن الله تعالى ذَكَرَ بعدها نعيم الجنة لمن آمن وعمل صالحاً .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله :
"وفيالآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية : حياتهفي الدنيا حيـــــــــــــاة طيبة ، وتلك القر ينة هي أننا لو قدرناأنالمراد بالحياة الطيبة : حياته في الجنة في قوله : {فَلَنُحْيِيَنَّهُحَيَاةً طَيِّبَةً)صار قوله : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِمَا كَانُواْيَعْمَلُونَ )
تكراراً معه ؛ لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم
،بخلاف ما لو قدرنا أنها في الحياة الدنيا ، فإنه يصير المعنى : فلنحيينهفي الدنيا حياةطيبة ، ولنجز ينه في الآخرة بأحسن ما كان يعمل ، وهو واضح ،وهذا المعنى الذي دل عليه القرآن : تؤيِّده السنة الثابتة عنه صلى اللهعليه وسلم ..." انتهى .
" أضواء البيان " ( 2 / 441 .)
وعلى هذا ؛فالحياة الطيبة للمؤمن في الدنيا لا تنافي الابتلاء ؛ وذلك لأسباب :
1_المسلميعلم أن رفع الدرجات ، وتكفيرالسيئات ، وبلوغ الغايات : لا يمكن أن تنالإلا على جسر من الابتلاءات ،والامتحانات , ولذلك كان السلف يفرحونبالابتلاء ؛ لما يرجون من الثواب ،والجزاء , كما جاء في الحديث عَنْ أَبِىسَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ _ رضي الله عنه _قَالَ : (قُلْتُ : يَا رَسُولَاللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّبَلاَءً ؟ قَالَ : الأَنْبِيَاءُ ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ مَنْ ؟قَالَ : ثُمَّ الصَّالِحُونَ إِنْكَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُهُمْإِلاَّ الْعَبَاءَةَ يُحَوِّيهَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُبِالْبَلاَءِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ)رواه ابنماجه (4024)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" .
وهذاالفرح غير مسألة تمني البلاء , فتمني البلاء لا يجوز ، كما جاء في الحديثعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أَوْفَى_ رضي الله عنهما _عن رسول الله _صلىالله عليه وسلم_ قَالَ : (أَيُّهَا النَّاسُ ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَالْعَدُوِّ ،وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ)
( رواه البخاري (6810) ومسلم (1742)
قال ابن القيم رحمه الله :
وإذاتأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده ، وصفوته بما ساقهم به إلى أجلِّالغايات ، وأكمل النهايات التي لم يكونوايعبرون إليها إلا على جسر منالابتلاء والامتحان ... وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين الكرامة في حقهم، فصورته صورة ابتلاء ، وامتحان ، وباطنه فيه الرحمة والنعمة ،فكم لله مِننعمة جسيمة ، ومنَّة عظيمة ، تُجنى من قطوف الابتلاء ، والامتحان ،فتأملحال أبينا آدم صلى الله عليه وسلم ، وما آلت إليه محنته ، من الاصطفاء،والاجتباء ، والتوبة ، والهداية ، ورفعة المنزلة ... وتأمل حال أبيناالثاني نوح _صلى الله عليه وسلم_ ، وما آلت إليه محنته ، وصبره على قومهتلك القرون كلها، حتى أقر الله عينه ، وأغرق أهل الأرض بدعوته ، وجعلالعالم بعده من ذريته ، وجعله خامس خمسة ، وهم أولو العزم الذين هم أفضلالرسل , وأمَر رسولَه ونبيه محمَّداً أن يصبركصبره ، وأثنى عليه بالشكر ،فقال : (إِنَّهُ كَانَ عَبْداًشَكُوراً)فوصفه بكمال الصبر ، والشكر ، ثمتأمل حال أبينا الثالث إبراهيم _صلى الله عليه وسلم_ إمام الحنفاء ، وشيخالأنبياء ، وعمود العالم ، وخليل رب العالمين من بني آدم ، وتأمل ما آلتإليه محنته ، وصبره ، وبذله نفسه لله ، وتأمل كيف آل بــــــــــــــهبذله لله نفسه ، ونصره دينه إلى أن اتخذه الله خليلاً لنفسه ... وضاعفالله له النسل ، وبارك فيه ، وكثر ، حتى ملؤوا الدنيا ، وجعل النبوةوالكتاب في ذريته خاصة ، وأخرج منهم محمَّداً صلى الله عليه وسلم وأمَرهأن يتبع ملة أبيه إبراهيم ... .
فإذاجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وتأملت سيرتَه معقومه ، وصبره في الله، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله ، وتلون الأحوال عليه ، مِنسِلْم وخوف ،وغنى وفقر ، وأمن وإقامة ، في وطنه وظعن عنه ، وتركه لله ، وقتل أحبابه ،وأوليائه بين يديه ، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى ، من القول ،والفعل، والسحر ، والكذب ، والافتراء عليه ، والبهتان ، وهو مع ذلك كله صابر علىأمر الله ، يدعو إلى الله ، فلم يُؤْذَ نبي ما أوذي ، ولم يحتمل في اللهما احتمله، ولم يُعْطَ نبي ما أعطيه ، فرفع الله له ذِكره ، وقرن اسمهباسمه ، وجعله سيدالناس كلهم ، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة ، وأعظمهمعنده جاهاً ، وأسمعهم عنده شفاعة ، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته، وهي مما زاده الله بها شرفاً ،وفضلاً ، وساقه بها إلى أعلى المقامات ،وهذا حال ورثته من بعده ، الأمثل ، فالأمثل، كلٌّ له نصيب من المحنة ،يسوقه الله به إلى كماله بحسب متابعته له .
" مفتاح دار السعادة " ( 1 / 299 – 301) .
2_والمسلم جنته في صدره , ولو كان مكبَّلا بأصناف البلاء , قال ابن القيم -يصف حال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يتنقل في أصناف منالبلاء والاختبار- :
قال لي مرة - يعني : شيخ الإسلام - :
ما يصنع أعدائي بي ؟!
أناجنتي وبستاني في صدري ، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني ، إنّ حبْسي خلوة ، وقتْلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة " .
وكان يقول في محبسه في القلعة : " لو بذلت ملءهذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة " ،
أو قال : " ما جز يتهم على ماتسببوا لي فيه من الخير " ، ونحو هذا .
وكان يقول في سجوده وهو محبوس : " اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله" ،
وقال لي مرة : " المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى ، والمأسور من أسره هواه " ،
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال : (فَضُرِبَبَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُمِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) (الحديد/13) ،
وعلم الله ما رأيتُ أحداً أطيب عيشاً منه قط ، مع كل ما كان فيه من ضيقالعيش ، وخلاف الرفاهية والنعيم ، بل ضدها ، ومع ما كان فيه من الحبس ،والتهديد ،والإرهاق ، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً ، وأشرحهم صدراً ،وأقواهم قلباً ،وأسرهم نفساً ، تلوح نضرة النعيم على وجهه ، وكنا إذا اشتدبناالخوف ، وساءت منا الظنون ، وضاقت بنا الأرض : أتيناه ، فما هو إلا أننراه ، ونسمع كلامه ، فيذهب ذلك كله ، وينقلب انشراحاً ، وقوةً ، ويقيناً، وطمأنينة ، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه ، وفتح لهم أبوابها فيدار العمل ، فأتاهم من روحها ، ونسيمها ، وطيبها ،ما استفرغ قواهم لطلبهاوالمسابقة إليها .
" الوابل الصيب " ( ص 110 ).
فهذه الجنة التي وجدها شيخ الإسلام ، ويجدها أهل الإيمان والتقوى ، من انشراح الصدر ، والبال ومن الطمأنينة ,
والعيش بين الشكر والصبر : لهي والله السعادة التي ينشدها العقلاء ، ويطلبها الصالحون ، ويسعى إليها الساعون .
وهذه والله هي حقيقة الحياة الطيبة التي وعدهم الله إياها في الدنيا .
رزقنا الله وإياكم إياها , وجعلنا من أهلها .
وانظر في فوائدابتلاء المؤمن جواب السؤال رقم : ( 12099) .
والله أعلم،،