كان هو صامتًا على الدوام لا يعترض، منصاعًا لأوامرها، ملبيًا لرغباتها مهما تلوّنت
أوتنوّعت، ممتثلاً لمطالبها مهما كانت غريبة أو صعبة قاهرة.
وكانت هي لا تتحرَّج أن تطلب ما تحب وتشتهي حين أيقنت بعد الخصام
أنه قد غدا خاتمًا في إصبعها.تحرّكه كيف تشاء، وتشترط عليه ما تريد، وقد رمت
بعرض الحائط ظروفه المادية التي هبطتتدريجيًا منذ يوم الخطبة، ثم هوت إلى الحضيض
مع شراء الشقة الفخمة والأثاث.
حاول كثيرًا أن يشرح لها ظروفه، وأن يخبرها عن وضعه المادي الحرج، دون جدوى..
وكم حاول أن يواري شعوره بالذّل والإهانة من قِبَلها وقد أحبّت ليلة العمر أكثر مما أحبّته،
وتمسكت بالحلم الأبيض أكثر مما تمسكت به، فتحامل على آلامه وأحزانه، ليجعل هذه
الفترةالعصيبة تمرّ على خير.
أحبها بكل ما تعنيه كلمة حب من معنى، وكان يعي تمامًا أنها تتخذ الحب سلاحًا لتضغط عليه،
وتجعل منه خادمًا مطيعًا لرغباتها، وعبدًا مكلّفًا بتحقيق أحلامها.
وحانت ليلة الزّفاف، وكان كلّ شيء كما تحب وتشتهي.
على المقعد الجلدي الكبير عند مصفّفة الشعر؛ استرخت وأغمضت عينيها وهي
تسترجع رحلة استغرقت عمرًا كاملاً قضته في الحلم، كانت تحلم فقط بهذه اللحظة.
مازالت تذكر أمام الجميع بكثير من زهوٍ ما تردده أمها على مسامعها.. حين ولدتِ جاء
الجميع لي يهنئون، يباركون قدوم العروس الجميلة!
اعتقد تجازمة أن كلمة عروس انطبعت داخلها في تلك اللحظة – لحظة الولادة –
وكانت النّواة لحلمٍ سعيد، وراح الحلم يكبر معها كلّ لحظة، يتعزّز في كيانها،
وتُخلق تلك العروس كاملة المزاياوالصّفات، لتعيش بكلّ الفرح ليلة العمر.
فيما كانت المصففة تغسل شعرها، وتضيف له أنواعًا من الزيوت المعطرة،
تذكرت فجأة حين كانتفي السابعة من العمر، ورافقت أمها إلى السوق لتنتقي معها ثوبًا لائقًا لزفاف خالها.
بداعالم الأزياء مثيرًا بالنسبة إليها، ولأول مرّة تُترك لها حرّية الانتقاء لما سترتديه،
وهي اختارت دون تردد ثوب العروس الأبيض وأصرّت ألا تشتري سواه، يومها ذهبت
إلى مصففة الشعر، ونظرت بعين الإعجاب إلى العروس الحقيقية، وتمنت لو تكون مثلها يومًا.
وظلّ تفي لحظات الهدوء والتأمل ترسم صورة المستقبل، فستان أبيض وزهور، صالة حالمة،
وإضاءات تأسر الناظرين، وهي الكوكب الدّريّ في كلّ الحكاية، فلا مكان لقصة ساندريلا،
ولن تهزمهابياض الثلج ولا الأميرة النائمة.
حين كبرت قليلاً وامتلكت أحلام الفتيات، اقترن كلّ حلم بفارس رائع يأتي ليغير حياتها الرّتيبة،
لم تحلم به آتيًا على حصان أبيض كبقية الفتيات، ولم تتخيله وسيمًا رقيقًا، كان دائمًافي دائرة
أحلامها شخص بلا وجه أو ملامح، شخص يمسك بيدها، ويرافقها في ليلة العمر، وكانتصورتها
هي الأثيرة بثوب أبيض فاتن، وطاقة من الورد الأبيض الأنيق، وتاج من الماس يلمعكالنجم
على شعرها، وهي الآن تعيش تلك اللحظة، وترى تلك الصورة واقعًا دون أحلام.
صوت ضجيج مجففات الشّعر لا يرحم، لكنه بدا كتغريد طير حالم يشدو لها بمستقبل سعيد..
احتملت ألوان الشد والجذب لكل خصلة، وكأنها ستقتلع من مكانها، وضغطت فكّيها لكيلا
تصيح من لألم في مرحلة وضع دبابيس الشعر. لم تصرخ في وجه المصففة الخرقاء وهي تتابع
عملها دون مبالاة، وكأنها تتعامل مع دمية مطاطية، تغرس في رأسها المسامير، لقد آثرت أن تحتمل،
لتغدو الأجمل، وستبقى تحتمل لتمضي تلك الليلة على خير.
استجمعت كل تركيزها، لتحتفظ بصورتها على المرآة، في اللحظة الحاسمة، حين وضعت التاج على رأسها...
نسيت تمامًا المبلغ الباهظ الذي دفعه خطيبها لقاء الحصول عليه، فهو تاج الأحلام، لن تغدو
أميرة الحفلة إلا به، ولذلك كانت مستعدة لأن تقاطعه أو تخاصمه مقابل أن يتوّج الحسنبتاج يستحقه.
نظرتحولها فرأت عيون الجميع معلقة بها، فعذرتهم، لأنها أدركت أنها قد بلغت من الفتنة والجمال
ما سيجعل الناس يتحدثون عنها لأعوام قادمة.
سألتهاالمصففة أين ستقيمين فرحك؟!
أجابت بفخر كبير، وكأنها كانت تنتظر سؤالاً مماثلاً على أحر من الجمر، لتسمع عبارات الثناء
والإعجاب، فقد عانت كثيرًا لترغم خطيبها على انتقاء أفخم صالة أفراح في المدينة، لمتلتفت لأعذاره،
ورمت بأوضاعه المادية الصعبة عرض الحائط، لم تلتفت لما قصّه عليها حولالديون المتراكمة،
والتي ستهدد حياته شهورًا طويلة، وكانت تقول بحروفٍ صخريّة؛ جميعالشّبان بوسعهم ت
أمين هذه الأمور لزوجاتهم، أود مشابهة صديقاتي، والتفوق عليهن، لنأحتمل فكرة أن
أغدو أقل منهن في أي شيء!!
كانت تلتفت إلى الحلم الجميل، بإصرار كبير على أن تحققه.
وهي تذكر تلك الليلة، حين رأت الدمعة في عيني خطيبها وهو يرجوها
أن تراعي ظروفه،لكنها أصرّت أن تقيم الحفل كما تريد، وأن يشتري لها الثوب
الذي ترغب، ويبتاع لها عقدالماس الذي تشتهي. قاطعته أسبوعًا وخيّرته بأن يلبي مطالبها أ
و يفترقا، فأتاها مصالحًايحمل بانكسار طاقة من الزّهر، أعطته مقابلاً لها لائحة جديدة، ب
مطالب أخرى. ومن يومهاوهو صامت دائمًا يفكر، لكنه لا يتوانى عن تلبية ما تريد،
صمته أزعجها قليلاً، لكنهارضيت به، وقتلت همسات الضمير التي حاولت أن تجهض حلمها الأكبر...
ليلة كألف ليلة وليلة!
مرّت ليلة الزفاف أروع مما تتمنّى وأجمل مما تشتهي، وفرحت العروس بالتصفيفة والفستان،
وبهرت الناس بحسنها اللافت، وبالبذخ الكبير الذي برز في صالة الأفراح، وسمعت من كلام
الثناءما أرضت غرورها، ورأت في عيون صويحباتها من الحسد والغيرة ما أطفأت
به نيرانًا اشتعلت لأعوام وهي ترقب اللحظة الحاسمة التي ستغلبهم بها.
وانتهت الليلة، وانتهى الحلم معها، ولما أصبحَ الصّبح، استيقظت لتسمع جلبة في شقّتها
الهادئةالحالمة، نادت على زوجها فأتاها يحمل في يديه أوراقًا، ويجمّل وجهه بابتسامة يتصنعها.
طلب منها بهدوء أن تفرغ ملابسها من الخزانة، فالعمال قادمون لأخذ الغرفة، كما أخلوا الشقةكلها من الأثاث.
لم ينتظرها لتسأل عن الخبر، بل قدم لها أوراقًا تتحدث عن مبالغ خيالية قد استدانها منأجلها،
وقد فات موعد تسديدها.
حينهاأدركت أنها قد طوّقت حياتها بالزهور والماس، لكن الطوق لم يكن على مقاسها فكاد يخنقها...
جلست حائرة تبكي، تفكر في خيارات ثلاثة تتنافس في صعوبتها وشدّتها على قلبها الحالم...
فإماأن تطلّق وتعود إلى بيت أهلها، أو يسجن زوجها، ليتحدث الناس بأمرها، ويلوكون
سيرتهابكثير من شماتة في الخيارين، أو أن تبيع عقد الماس وتصمت عن بيع الأثاث و
الشقة، وتقبل باستئجار بيت صغير في ضاحية فقيرة، وأثاث متوسط